الكاردينال راينا: قطيع يبكي راعيه... والكنيسة تواصل حلم الله الكاردينال راينا: قطيع يبكي راعيه... والكنيسة تواصل حلم الله  (VATICAN MEDIA Divisione Foto)

الكاردينال راينا: قطيع يبكي راعيه... والكنيسة تواصل حلم الله

"علينا أن نبحث عن راعٍ له نظرة يسوع، الذي تجلّت فيه إنسانية الله في عالم يحمل سمات القسوة واللا إنسانية. وأن نبحث عن راعٍ يؤكد لنا أننا مدعوون للسير معًا، جامعين بين الخدمات والمواهب: فنحن شعب الله، الذي أُقيم لكي يعلن الإنجيل" هذا ما قاله الكاردينال بالدو راينا في القداس الإلهي الذي ترأسه في اليوم الثالث من تساعية القداسات لراحة نفس البابا فرنسيس

في اليوم الثالث من تساعية القداسات لراحة نفس البابا فرنسيس، ترأس الكاردينال بالدو راينا القداس الإلهي مساء الاثنين في بازيليك القديس بطرس، وللمناسبة ألقى عظة مؤثرة عبّر فيها عن مشاعر الألم والرجاء التي تخالج قلوب أبناء الكنيسة في هذه الأيام العصيبة؛ وانطلاقًا من صورة حبة الحنطة التي تموت لتعطي ثمراً، استعرض الكاردينال عمق رسالة البابا فرنسيس كراعٍ أحب قطيعه حتى البذل الكامل، مؤكدًا أن الكنيسة مدعوة اليوم، وسط عالم مضطرب ومشتعل بالصراعات، إلى التمسك برجاء "سماء جديدة وأرض جديدة"، ومتابعة الإصلاحات الجريئة التي أطلقها الحبر الراحل دون خوف أو تراجع.

قال الكاردينال بالدو راينا إن صوتي الضعيف يقف اليوم ليعبر عن صلاة وألم جزءٍ من الكنيسة، كنيسة روما، المثقلة بالمسؤولية التي أوكلت إليها عبر التاريخ. وفي هذه الأيام، روما هي شعب يذرف الدمع على راعيه، شعب توافد مع شعوب أخرى، مصطفين بين أرجاء المدينة، ليبكوا ويصلوا، كغنم لا راعي لها. غنم لا راعي لها: صورة بلاغية تجمع مشاعر هذه الأيام، وتدعونا إلى التأمل في عمق الصورة التي وهبنا إياها إنجيل يوحنا: حبة الحنطة التي لا بدَّ أن تموت لتعطي ثمراً. إنها قصة حب الراعي لقطيعه

تابع الكاردينال بالدو راينا يقول وفي زمننا هذا، بينما يشتعل العالم بنيرانه، وقليلون هم الذين يتحلون بالشجاعة لإعلان الإنجيل وتحويله إلى رؤية مستقبلية ملموسة، تبدو البشرية كلها كغنم لا راعي لها. هذه الصورة تخرج من فم يسوع، وهو ينظر بعين الرأفة إلى الجموع التي كانت تتبعه. كان حوله التلاميذ الذين قصّوا عليه كل ما عملوه وعلّموه: الكلمات والتصرفات والأعمال التي تعلّموها من المعلم، وإعلان ملكوت الله الآتي، والدعوة إلى تغيير الحياة، مقرونة بعلامات قادرة على أن تجسّد الكلمات: لمسة حنونة، يد ممدودة، خطاب يجرّد من الأسلحة وخالٍ من الأحكام، محرر من القيود، لا يخشى ملامسة الدنس. وخلال قيامهم بهذه الخدمة، الضرورية لإيقاظ الإيمان، وإحياء الرجاء بأن الشر لن تكون له الكلمة الأخيرة، وأن الحياة أقوى من الموت، لم يكن لديهم حتى الوقت ليأكلوا. ويسوع قد شعر بهذا الثقل، وهذا ما يعزينا الآن.

أضاف الكاردينال بالدو راينا يقول يسوع، الراعي الحقيقي للتاريخ الذي يحتاج إلى خلاصه، يعرف ثقل الحمل الموضوع على كاهل كل واحد منا، ونحن نواصل رسالته، لاسيما عندما سنبحث عن أول رعاته على الأرض. وكما في أيام التلاميذ الأوائل، نجد اليوم أيضًا نجاحات وإخفاقات، تعبًا وخوفًا. إنَّ المسؤولية عظيمة، وتتسلل إلينا التجارب التي تحجب عن أبصارنا الشيء الوحيد المهم: أن نرغب، ونبحث، ونعمل منتظرين "سماءً جديدة وأرضًا جديدة". ولا يمكن لهذا أن يكون زمن موازنات دقيقة أو مناورات سياسية أو حذرٍ مفرط، ولا زمنًا للعودة إلى الوراء، ولا للأسف، للانتقام أو التحالفات السلطوية، نحن بحاجة إلى استعداد جذري للدخول في حلم الله الذي أوكله إلى أيدينا الضعيفة.

تابع الكاردينال بالدو راينا يقول ويؤثِّر فيَّ هذه اللحظة ما قاله سفر الرؤيا: "أنا يوحنا، رأيت المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة، نازلةً من السماء من عند الله، مهيأة كعروس مزينة لعريسها". سماء جديدة، أرض جديدة، أورشليم جديدة. أمام إعلان هذه الحداثة، لا يسعنا أن نستسلم لذلك الخمول العقلي والروحي الذي يربطنا بأشكال من اختبار الله والممارسات الكنسية التي عهدناها في الماضي، والتي نرغب في تكرارها إلى ما لا نهاية، خوفاً من الخسائر المرتبطة بالتغييرات اللازمة. أفكر هنا في العمليات الإصلاحية المتعددة لحياة الكنيسة، التي أطلقها البابا فرنسيس، وتجاوزت حدود الانتماءات الدينية. لقد شهد له الناس بأنه كان راعياً عالميًّا، وإن سفينة بطرس تحتاج اليوم إلى هذا الإبحار الواسع الذي يتخطى الحدود ويفاجئ. وهذا الشعب يحمل في قلبه قلقاً، وأكاد ألمح بين مشاعره سؤالاً حارقاً: ما مصير العمليات التي أُطلقت؟

أضاف الكاردينال بالدو راينا يقول ينبغي أن يكون واجبنا اليوم هو التمييز وترتيب ما قد بدأ، على ضوء ما تمليه علينا رسالتنا، وفي اتجاه "سماء جديدة وأرض جديدة"، وأن نزيِّن العروس لعريسها. في حين قد تدفعنا الأهواء الدنيوية إلى أن نكسو العروس حسب مقاييس المصالح الأرضية، أو أن نُخضعها لمطالب أيديولوجية تمزق وحدة ثوب المسيح. إن البحث عن راعٍ في زمننا هذا، يعني أولاً البحث عن قائد قادر على مواجهة خوف الفقدان حين تصطدم متطلبات الإنجيل بواقعنا. وأن نبحث عن راعٍ له نظرة يسوع، الذي تجلّت فيه إنسانية الله في عالم يحمل سمات القسوة واللا إنسانية. وأن نبحث عن راعٍ يؤكد لنا أننا مدعوون للسير معًا، جامعين بين الخدمات والمواهب: فنحن شعب الله، الذي أُقيم لكي يعلن الإنجيل.

تابع الكاردينال بالدو راينا يقول فيما كان يسوع، ينظر إلى الجموع التي كانت تتبعه، شعر بأن الشفقة تهتز في أحشائه: لقد رأى نساءً ورجالًا، أطفالًا وشيوخًا، فقراء ومرضى، ولا أحد يعتني بهم أو يسدّ جوعهم الناتج عن قسوة الحياة، أو يروي ظمأهم إلى الكلمة الحية. أمامهم، شعر يسوع بأنه هو خبزهم الذي لا يخيبهم، وماؤهم الذي لا ينضب، والبلسم الذي يشفي جراحهم. إنها الشفقة عينها التي شعر بها موسى عند مشارف حياته، من أعلى قمة جبل عباريم، أمام الأرض التي لن تطأها قدماه، فيما كان ينظر إلى الشعب الذي قاده، فتوسل إلى الله لكي لا يُترك هذا الشعب كغنمٍ بلا راع، شعب لا يمكنه أن يبقيه معه، بل عليه أن يمضي قدمًا. وهذه الصلاة أصبحت الآن صلاتنا، صلاة الكنيسة كلها، وصلاة جميع النساء والرجال الذين يطلبون من يُرشدهم ويعضدهم في عناء الحياة، وسط الشكوك والتناقضات، أيتام لكلمة توجههم وسط غناء صفارات الإغواء التي تثير غرائز الفداء الذاتي، كلمة تحطّم العزلة، وتجمع المنبوذين، ولا تستسلم للجبروت، وتتحلى بالشجاعة لئلا تُخضع الإنجيل لمساومات الخوف المأساوية، وتواطؤ منطق العالم وتحالفاته الصمّاء والعمياء عن علامات الروح القدس.

أضاف الكاردينال بالدو راينا يقول إن شفقة يسوع هي شفقة الأنبياء الذين عبّروا عن ألم الله أمام شعبٍ مشتّتٍ ومُستغلّ من قبل الرعاة الأشرار، ومن المرتزقة الذين يستخدمون القطيع لأنفسهم ثم يهربون حين يأتي الذئب. إنَّ الرعاة الأشرار، لا يبالون بالقطيع، ويتركونه فريسة للخطر، ولذلك يُخطف ويُشتّت. أما الراعي الصالح، فيبذل حياته في سبيل خرافه. عن هذا الاستعداد الجذري للراعي يحدثنا نص إنجيل يوحنا الذي أُعلن في هذه الليتورجيا الإفخارستية، ويقدم لنا شهادة يسوع الذي يرى أبعد من الموت، عندما تحين الساعة التي فيها سيتمجد عمله الخلاصي: ساعة الموت على الصليب، التي تكشف محبةً غير مشروطة للبشرية جمعاء.

تابع الكاردينال بالدو راينا يقول "إنَّ حَبَّةَ الحِنطَةِ الَّتي تَقَعُ في الأَرض إِن لَم تَمُتْ تَبقَ وَحدَها"، إنَّ حبة الحنطة التي بتجسد الكلمة طلبت الأرض، قد سقطت لكي ترفع الذين سقطوا، وأتت لكي تبحث عن الذين ضلّوا. وموتها كان زرعًا تركنا معلقين بتلك الساعة، ساعة لا نرى فيها البذرة، لأن الأرض قد غمرتها وأخفتها عنا، فيخال لنا أن البذرة قد ضاعت سدى. إنها حالة قد تملؤنا قلقًا، لكنها قد تصبح أيضًا عتبة رجاء، شقًا في جدار الشك، نورًا في عتمة الليل، وحديقة قيامة. إن الخصوبة التي وعدنا بها ترتبط بالاستعداد للموت؛ بأن نصبح قمحًا يُمضغ، رهينةً لعدم الأمانة والجحود، لكن الراعي الصالح الذي يبذل حياته عن خرافه، يواجه ذلك كله بمغفرةٍ يطلبها من الآب، فيما يموت متروكًا من أحبائه.

أضاف الكاردينال بالدو راينا يقول إنَّ الراعي الصالح يزرع بموته، غافرًا لأعدائه، مفضلاً خلاصهم، وخلاص الجميع، على خلاص نفسه. فإن أردنا أن نكون أمناء للرب، لحبة الحنطة التي وقعت في الأرض، فعلينا أن نفعل ذلك بأن نزرع بحياتنا. وكيف لا نتذكر قول المزمور: "الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالترنيم"؟ هناك أزمنة - مثل زمننا - يصبح فيها البذر تصرفًا متطرفًا، تحركه جذريّة فعل إيمان. إنه زمن مجاعة، والبذرة التي أُلقيت في الأرض هي تلك التي انتُزعت من آخر مخزون، وبدونها قد يموت. والفلاح يبكي، لأنه يعرف أن هذا التصرف الأخير قد يُعرض حياته للخطر. لكن الله لا يترك شعبه، ولا يهجر رعاته، ولن يسمح كما لم يسمح لابنه بأن يُترك في القبر، في ظلمة الأرض.

وختم الكاردينال بالدو راينا عظته بالقول إنَّ إيماننا يحمل وعد الحصاد المملوء بالفرح، لكنه لن يتم إلا بالمرور عبر موت البذرة، التي هي حياتنا. وذلك التصرف المتطرف، الشامل، المرهق، للزارع قد أعادني بذاكرتي إلى يوم عيد الفصح مع البابا فرنسيس، إلى ذلك الانسكاب الكامل منه بدون تحفّظ في بركة ومعانقة شعبه، في اليوم الذي سبق وفاته. لقد كان ذلك آخر فعل من أفعال زرعه لإعلان رحمة الله بلا تحفظ. شكرًا لك، يا قداسة البابا فرنسيس. لتقبل مريم العذراء، التي نكرمها في روما تحت لقب "خلاص شعب روما"، والتي تلازم وتراقب الآن رفاته الطاهرة، روحه الطاهرة، وتحرسنا جميعًا في مواصلة رسالته. آمين.

28 أبريل 2025, 18:30