بحث

الكاردينال غامبيتي، دينونة الحب: عندما تُقاس الحياة بالرحمة الكاردينال غامبيتي، دينونة الحب: عندما تُقاس الحياة بالرحمة  (AFP or licensors)

الكاردينال غامبيتي، دينونة الحب: عندما تُقاس الحياة بالرحمة

"ليس مَن عرف المسيح نظريًا، بل مَن لمسه في الإنسان الجائع والعطشان والغريب والمريض، هو الذي يدخل فرح الله" هذا ما قاله الكاردينال ماورو غامبيتي، في عظته مترئسًا القداس الإلهي عن راحة نفس الحبر الأعظم البابا فرنسيس

في أجواء من الخشوع والرجاء، ووسط الجلال الليتورجي الذي يميّز بازيليك القديس بطرس، الكاردينال ماورو غامبيتي، رئيس كهنة البازيليك الفاتيكانية، القداس الإلهي عن راحة نفس الحبر الأعظم البابا فرنسيس، وذلك في إطار تساعية القداسات التي تقيمها الكنيسة تباعًا بعد وفاة خليفة بطرس. وقد احتشد عدد من الكرادلة والأساقفة والكهنة والمؤمنين في هذه المناسبة المهيبة، رافعين صلواتهم من أجل أن يقبَل الرب عبدَه الأمين في دياره السماوية، مكافئًا إياه على أمانته في رعاية شعب الله وسيره على خطى المسيح الراعي الصالح. وقد تخللت الذبيحة الإلهية عظة للكاردينال غامبيتي قال فيها إنَّ النص الإنجيلي معروفٌ ومألوف. إنه مشهد جليل ذو طابع كوني شامل: جميع الشعوب، التي تعيش معًا في الحقل الواحد الذي هو العالم، تُجمع أمام ابن الإنسان الجالس على عرش مجده ليدين البشرية. إنَّ الرسالة واضحة: في حياة الجميع، سواء مؤمنين أو غير مؤمنين، بدون تمييز، هناك لحظة فاصلة يُفرَز فيها الناس؛ فبعضهم يبدأ في الاشتراك بفرح الله، بينما يذوق آخرون مرارة الألم العظيم الناتج عن الوحدة الحقيقية، إذ يُستبعدون من الملكوت ويُتركون في عزلة روحية يائسة.

تابع الكاردينال ماورو غامبيتي يقول في الترجمة الإيطالية يُشار إلى الفئتين بالخراف والجداء. غير أن النص اليوناني يستعمل، إلى جانب الكلمة المؤنثة πρόβατα (الخراف)، لفظ ἐρίφια، الذي يعني غالبًا الذكور من الماعز. إنَّ الخراف لا تثور بل هي مطيعة، أمينة، وديعة، تهتم بالحملان والضعفاء من القطيع، ولهذا تدخل إلى الملكوت المُعَدّ لها منذ تأسيس العالم. أما الجداء، فتسعى للاستقلال، وتُناطح الراعي والحيوانات الأخرى، وتعلو فوق بقية القطيع لتُظهر هيمنتها، وفي وجه الخطر لا تفكر إلا بنفسها، ولهذا تُدان إلى النار الأبدية. ومن الطبيعي أن يطرح الإنسان على نفسه السؤال: على الصعيد الشخصي والمؤسساتي، أيّ النمطين نُمثّل؟

أضاف الكاردينال ماورو غامبيتي يقول من الواضح أيضًا أن الانتماء إلى ملكوت الله لا يتوقف على المعرفة الظاهرة بالمسيح: "يا رب، متى رأيناك جائعًا... عطشانًا... غريبًا... عريانًا... مريضًا أو سجينًا؟". في النص اليوناني، استخدم متى فعل ὁράω بمعنى "رأى بعمق"، أي أدرك، استوعب، فهم. ولعلنا نعيد الصياغة هكذا: "يا رب، متى فهمناك؟ متى حددناك؟ متى وصفناك؟" فتأتي إجابة يسوع لتُظهر أن الدخول في فرح الله لا يرتبط بإعلان الإيمان أو بالمعرفة اللاهوتية أو الممارسة الأسرارية، بل بالالتزام الحقيقي والكثيف في واقع إخوتنا الصغار. وشخصية الإنسان هي ملوكية يسوع الناصري الذي شارك في حياته الأرضية في كل شيء ضعف طبيعتنا، حتى إلى درجة أنه رُفِض، واضطُهِد، وصُلب. إن مثل الدينونة الأخيرة يُظهر في النهاية السرّ الذي يقوم عليه العالم: الكلمة صار جسدًا، أي إن الله شاء أن يتضامن مع الإنسان إلى درجة أن، وأقتبس من إيليا شيتيريو، "من يلمس الإنسان يلمس الله، من يكرم الإنسان يكرم الله، ومن يحتقر الإنسان يحتقر الله". 

تابع الكاردينال ماورو غامبيتي يقول إن هذا المثل في الواقع يكشف الكرامة القصوى للأعمال البشرية، إذ تُقاس بالرحمة، والتضامن، والحنان، والقرب من الآخر في إنسانيته. وقد عبّرت الكاتبة إديث بروك في كلمات وداعها للبابا فرنسيس عن هذه الإنسانية العميقة بروح شعرية مؤثرة، وتقول: لقد فقدنا إنسانًا يسكن في داخلي. إنسان كان يحب، يتأثر، يبكي، يدعو إلى السلام، يضحك، يُقبّل، يعانق، يتأثر ويُؤثّر، وينشر الدفء. حبّ الناس له، من أي لون كانوا وأينما كانوا، كان يُعيد إليه شبابه. وكانت روح الدعابة والذكاء تجعله حكيمًا. لقد كانت إنسانيته معدية، تُليّن حتى الحجارة. وكان ما يشفيه من الأمراض هو إيمانه العميق المتجذر في السماء. إن "الإنسانية المسيحية" تجعل من الكنيسة بيتًا للجميع. كم هي آنية كلمات البابا فرنسيس التي قالها في لقائه مع اليسوعيين في لشبونة عام ٢٠٢٣: "الجميع، الجميع، الجميع مدعوون إلى أن يعيشوا في الكنيسة: لا تنسوا هذا أبدًا!" وقد سبق لبطرس أن قال ذلك بوضوح في سفر أعمال الرسل: "أَدرَكتُ حَقًّا أَنَّ اللهَ لا يُراعي ظاهِرَ النَّاس، فمَنِ اتَّقاه مِن أَيَّةِ أُمَّةٍ كانت وعَمِلَ البِرَّ كانَ عِندَه مَرضِيًّا".

أضاف الكاردينال ماورو غامبيتي يقول إن نص القراءة الأولى التي قدمتها لنا الليتورجية اليوم هو اللقاء بين بطرس وبعض الوثنيين، كورنيليوس وعائلته. حدث، يشير من خلال موقف بطرس في عصر معولم ومعلمن ومتعطش للحقيقة والمحبة كعصرنا إلى درب البشارة: الانفتاح بدون تحفّظ على الإنسان، الاهتمام المجاني بالآخر، مشاركة الخبرة المعاشة، والتعمّق في مساعدة كل إنسان، رجل أو امرأة، على أن يعطي الفضل للحياة، ولنعمة الخليقة، وعندما يرون أن ذلك يُرضي الله — كما يقول القديس فرنسيس الأسيزي — يُعلنون الإنجيل، أي ظهور الإنسانية الإلهية ليسوع في التاريخ، لدعوة الأمم إلى الإيمان بالمسيح، "المجنون بحب الإنسان" كما تعلّمنا القديسة كاترينا السيانية التي نحتفل اليوم بعيدها في إيطاليا. عندها فقط، ستتجلّى للجميع القيمة الحقيقية لاعتراف الإيمان، والمعرفة اللاهوتية السليمة، والأسرار التي تغني الحياة الروحية بجميع أشكال النعم. وختم الكاردينال ماورو غامبيتي عظته بالقول لْتدلنا مريم، العذراء خادمة الرب المتواضعة، التي أعطت المخلّص للعالم، درب التتلمذ الحقيقي والبشارة.

29 أبريل 2025, 18:02