بحث

الكاردينال فرنانديز: العمل كجواب على الحب الإلهي: وجهٌ من سيرة البابا فرنسيس الكاردينال فرنانديز: العمل كجواب على الحب الإلهي: وجهٌ من سيرة البابا فرنسيس  (@Vatican Media)

الكاردينال فرنانديز: العمل كجواب على الحب الإلهي: وجهٌ من سيرة البابا فرنسيس

"لقد فهم البابا فرنسيس أن عمله هو رسالته، وأن جهد كل يوم كان جوابه على محبة الله، وتعبيره العملي عن اهتمامه بخير الآخرين. ولهذا كان العمل، بالنسبة له، مصدر فرح، وقوته، وراحته" هذا ما قاله الكاردينال فيكتور مانويل فرنانديز في عظته مترئسًا قداس اليوم السادس من التساعية التي تُقام عن راحة نفس الحبر الأعظم الراحل البابا فرنسيس

في اليوم السادس من تساعية الحِداد على راحة نفس الحبر الأعظم البابا فرنسيس، احتشد المؤمنون مجددًا في بازيليك القديس بطرس للمشاركة في الذبيحة الإلهية، التي ترأسها الكاردينال فيكتور مانويل فرنانديز. وفي هذا القدّاس الذي أُقيم في مطلع شهر أيار، يوم عيد العمّال، وفي أجواء الفصح المجيد، صدحت كلمات الإنجيل بحقيقة الرجاء: "جميعُ الذين يُعطيني الآبُ إياهم يُقبلون إليَّ، ومشيئةُ الذي أرسلني ألا أُهلك أحدًا من جميع ما أعطانيه". وانطلاقًا من هذا الرجاء، ألقى الكاردينال فرنانديز عظة مؤثّرة، رسم فيها ملامح البابا فرنسيس كإنسان للمسيح، وكراعٍ شغوف بالعدالة، وكعاملٍ لم يعرف الراحة، يعمل بمحبة وتواضع من أجل الكنيسة والعالم. وبين نور القيامة وكرامة العمل، وبين حنان الإيمان وشهادة الحياة، بسط الكاردينال تأملاً إنجيليًا وإنسانيًا عميقًا عن معنى الانتماء للمسيح، وعن كرامة كل إنسان، خاصّة من يتعب ويكافح بصمت في سبيل لقمة العيش.

قال الكاردينال فرنانديز في عيد الفصح هذا، يقول لنا المسيح: "جَميعُ الَّذينَ يُعطيني الآبُ إِيَّاهُم يُقبِلونَ إِليَّ... ومَشيَئةُ الَّذي أَرسَلَني أَلاَّ أُهلِكَ أَحَداً مِن جَميعِ ما أَعْطانيه". يا لها من كلمات مفعمة بحلاوة لا توصف! إن البابا فرنسيس هو للمسيح، ينتمي إليه، والآن، وقد غادر هذه الأرض، بات بكليّته للمسيح. لقد أخذه الرب معه منذ لحظة معموديّته، ورافقه طوال حياته. إنه حقًا للمسيح، الذي وعده بملء الحياة.

تابع الكاردينال فيكتور مانويل فرنانديز يقول تعلمون كم كان البابا فرنسيس يتكلّم عن المسيح بحنان، وكم كان يتمتّع بذكر اسم يسوع الحلو، كما يليق بيسوعيّ صالح! كان يدرك تمامًا أنه ينتمي إليه، ولا شكّ أن المسيح لم يتخلَّ عنه، ولم يتركه. هذا هو رجاؤنا، التي نحتفل به بفرح فصحي، في نور هذا الإنجيل الثمين. ولا يمكننا أن نتجاهل أننا نحتفل اليوم أيضًا بيوم العمّال، الذين كانوا في قلب البابا فرنسيس على الدوام. أذكر مقطع فيديو أرسله منذ سنوات لاجتماع لرجال أعمال أرجنتينيين، قال فيه: "لن أتعب أبدًا من الإشارة إلى كرامة العمل. لقد نسب إليّ البعض القول بأني أدعو إلى حياة من دون تعب، أو أني أحتقر ثقافة العمل". في الواقع، لقد زعم بعض غير الأمناء أن البابا فرنسيس كان يدافع عن الكسولين، والعاطلين، والمجرمين، والخاملين. ولكن الأمر ليس كذلك أبدًا. ولكنّه أصرّ قائلاً: "تخيلوا إن كان يمكن قول ذلك عنّي، أنا المنحدر من عائلة بيمونتية، لم يأتوا إلى هذا البلد ليعيشوا على نفقة غيرهم، بل بذلوا الجهد وشمّروا عن سواعدهم لكي يبنوا مستقبلًا لعائلاتهم". أضاف الكاردينال فيكتور مانويل فرنانديز يقول فبالنسبة للبابا فرنسيس، العمل يعبِّر عن كرامة الإنسان ويغذّيها. العمل يسمح له بأن يطوّر قدراته، ويساعده على بناء علاقات، ويجعله يشعر بأنه شريك لله في رعاية هذا العالم وتحسينه، ويمنحه الشعور بأنه نافع للمجتمع ومتضامن مع أحبّائه. ولهذا السبب، فإن العمل، رغم التعب والصعوبات، هو مسار للنضوج الإنساني والمسيحي. ولهذا قال إنَّ "العمل هو أفضل عون يمكن تقديمه للفقير". وأضاف: "ما من فقر أسوء من ذاك الذي يحرم الإنسان من العمل ومن كرامة العمل". ومن الجدير أن نستعيد كلماته خلال زيارته إلى جنوى، حين أكّد أن "حول العمل يُبنى الميثاق الاجتماعي بأسره". وقد أعاد التذكير بإعجابه بما تنصّ عليه المادة الأولى من الدستور الإيطالي: "إيطاليا جمهورية ديمقراطية تقوم على العمل".

تابع الكاردينال فيكتور مانويل فرنانديز يقول وراء هذا الحبّ العميق للعمل تكمن قناعة راسخة لدى البابا فرنسيس: القيمة اللامحدودة لكلّ كائن بشري، والكرامة العظيمة التي لا يمكن أن تُفقد أبدًا، ولا أن تُهمَل أو تُنسى تحت أيّ ظرف. لكن، بما أن لكل إنسان هذه الكرامة العظيمة، فلا يكفي أن نعطيه ما يحتاجه، بل علينا أن نُعزّزه ونُنمّيه. أي أن نتيح له المجال لكي ينمِّي كلّ الخير الذي يحمله في داخله، وأن يكتسب خبزه بفضل العطايا التي وهبه الله إياها، وأن يطوّر طاقاته. بهذه الطريقة، تُصان كرامة الإنسان بكل أبعادها. وهنا تَكمن أهمية العمل. لكن انتبهوا! – كان البابا فرنسيس يقول – هناك فرق بين تقدير الجهد الفردي، وبين بعض الخطابات المزيّفة التي تتحدّث عن "الاستحقاق". فشيء هو أن نقيّم جهود الإنسان ونكافئه عليها، وشيء آخر أن نقع في وهم "الاستحقاق" الزائف، الذي يجعلنا نظنّ أن من نجح في الحياة هو وحده من يستحقّ التقدير. لننظر إلى شخص وُلد في عائلة ميسورة، واستطاع أن يزيد من ثروته، ويعيش حياة راقية في منزل جميل، بسيارة فاخرة، وعطلات في الخارج. لا بأس بذلك. لقد نشأ في ظروف مواتية، وقام بأعمال تستحق الثناء، وبفضل قدراته ووقته بنى حياة مريحة له ولأبنائه. ولكن، في الوقت عينه، هناك من يعمل بيديه، وقد يكون له من الجهد والاستحقاق ما يفوق الأول، لكنّه لا يملك شيئًا. لم يحظَ بفرص مماثلة، ومهما تعب واجتهد، بالكاد يستطيع المضي قدمًا.

أضاف الكاردينال فيكتور مانويل فرنانديز يقول سأروي لكم حالة لن أنساها: شاب كنت أراه كثيرًا قرب منزلي في بوينس آيرس. كان يعمل في جمع الكراتين والزجاجات ليُعيل عائلته. كنت أراه صباحًا حين أذهب إلى الجامعة، وعندما أعود، وحتى ليلًا. سألته يومًا: "كم ساعة تعمل كل يوم؟" فأجاب: "ما بين ١٢ و١٥ ساعة يوميًا، لأنّ لديّ عدّة أولاد وأريد أن يكون لهم مستقبل أفضل". فقلت له: "ومتى تمضي وقتًا معهم؟" فأجاب: "عليّ أن أختار، إما أن أكون معهم أو أن أوفّر لهم ما يأكلون". وعلى الرغم من كل هذا، مرّ به رجل أنيق الملبس وقال له بازدراء: "اذهب وابحث عن عمل، أيها الكسول!" لقد بدت لي تلك الكلمات قاسية ومتكبّرة إلى درجة مرعبة. لكنها، للأسف، تتردّد أيضًا ولكن بشكل أكثر أناقة في خطابات أخرى كثيرة.

تابع الكاردينال فيكتور مانويل فرنانديز يقول لقد أطلق البابا فرنسيس صرخة نبوية مدوّية ضدّ هذه الفكرة الزائفة. وفي أحاديث عديدة بيني وبينه، كان يشير إليّ قائلاً: "انظر، إنهم يدفعوننا إلى الاعتقاد بأن معظم الفقراء هم فقراء لأنهم لا يملكون ما يُسمّى بـ"الاستحقاق". فيبدو أن من يرث الثروات هو أكثر استحقاقًا من ذاك الذي قضى عمره كله في أعمال شاقة، ولم يتمكن رغم ذلك من شراء بيت صغير يأويه". ولهذا كتب في الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل أن في هذا النموذج الاقتصادي "لا يبدو أنّ هناك جدوى من الاستثمار في الذين يُتركون في الخلف، أو في الضعفاء أو من يملكون قدرات أقل، كي يتمكّنوا من أن يشقّوا طريقهم في الحياة". وهنا تعود الأسئلة الكبرى لتفرض نفسها: أليس الأقل حظًا من البشر إنسانًا مثلنا؟ أليس للضعفاء كرامة مساوية لكرامتنا؟ ألا يحقُّ لمن ولد في ظروف قاسية أن ينمو، وأن يعمل في وظيفة تتيح له أن يطوّر ذاته ويهيّئ لأبنائه مستقبلاً أفضل؟

أضاف الكاردينال فيكتور مانويل فرنانديز يقول ولكن اسمحوا لي الآن أيضًا أن أقدّم البابا فرنسيس في وجهه الآخر: كعاملٍ. فهو لم يكن يتحدّث عن قيمة العمل فقط، بل عاشه بجسده وروحه، بكل ما فيه من تعب وشغف وتفانٍ. ولطالما كان الأمر محيّرًا بالنسبة لي: كيف استطاع، وهو رجل متقدّم في السن، يعاني من أمراض عدّة، أن يتحمّل إيقاع عملٍ مُتطلِّبٍ كهذا؟ فهو لم يكن يعمل فقط في الصباح ويشارك في اجتماعات، ويعقد لقاءات، ويقيم احتفالات، ويستقبل الزوّار، وإنما خلال فترة بعد الظهر أيضًا. وقد بدا لي تصرّفه بطوليًا حين تَشجّع في أيامه الأخيرة – رغم ما كان يشعر به من وهن شديد – وذهب لكي يزور السجناء. ولكن لا يمكننا أن نعتبره مثالاً يُحتذى به، لأنه لم يكن يأخذ إجازات أبدًا. وفي بوينس آيرس، في الصيف، إن لم تجد أي كاهنٍ، فكنت ستجده هو، بالتأكيد. عندما كان في الأرجنتين لم يكن يخرج للعشاء، ولا يذهب إلى المسرح أو للتنزه أو لمشاهدة الأفلام. لم يكن يخصّص لنفسه يومًا واحدًا من الراحة التامة. أما نحن، كبشر عاديين، فلا يمكننا أن نتحمّل ذلك. لكن حياته تبقى مصدر إلهام لنا لكي نعيش عملنا بسخاء.

تابع الكاردينال فيكتور مانويل فرنانديز يقول ما أريد أن أسلّط عليه الضوء، هو إلى أيّ مدى فهم البابا فرنسيس أن عمله هو رسالته، وأن جهد كل يوم كان جوابه على محبة الله اللامتناهية، وتعبيره العملي عن اهتمامه بخير الآخرين. ولهذا كان العمل، بالنسبة له، مصدر فرح، وقوته، وراحته. كان يختبر ما سمعناه في القراءة الأولى: "ما مِن أَحَدٍ مِنَّا يَحْيا لِنَفْسِه". لنصلِّ اليوم من أجل جميع العمّال، الذين يُضطرّون أحيانًا للعمل في ظروف غير إنسانية، لكي يجدوا سبيلاً إلى عيش عملهم بكرامة، ولكي ينالوا أجرًا يسمح لهم بأن ينظروا مع عائلاتهم إلى المستقبل برجاء. وفي هذه الذبيحة الإلهية، وبحضور أفراد الكوريا الرومانية، لا ننسى أننا نحن أيضًا نعمل. نحن عمّال نلتزم بساعات العمل، وننفّذ ما يُوكَل إلينا من مهام، ونتحمّل مسؤوليات تتطلب منّا جهدًا. إن تحمّل مسؤولية العمل هو أيضًا، بالنسبة لنا نحن في الكوريا، مسيرة نضج وقداسة.

وأخيرًا، خلص الكاردينال فيكتور مانويل فرنانديز إلى القول اسمحوا لي أستعيد محبّة البابا فرنسيس للقديس يوسف، ذاك العامل المتواضع القوي، النجّار في قرية منسيّة، الذي بعمله كان يعتني بمريم ويسوع. ولنتذكّر كيف كان البابا فرنسيس، إذا واجه مشكلة كبيرة، يكتب ورقة صغيرة عليها صلاته ويضعها تحت تمثال القديس يوسف. لنطلب إذًا من القديس يوسف، الموجود في السماء، أن يمنح حبرنا الأعظم البابا فرنسيس الحبيب عناقًا قويًا ودافئًا...

 

01 مايو 2025, 17:21